* كلما تم الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل في هذا المجال أو ذاك، إلا وأعيد طرح السؤال الإشكالي حول عدالة هذا الفوز ؟ ومدي صدقية المانح ؟ وطبيعة قيمة إبداع الفائز والممنوح ؟.
السؤال قديم، والشك في سلامة إبداع الفائز معبر عنه بالواضح والمرموز، والنقد والاعتراض والرفض لنتائج الأكاديمية السويدية المكلفة بهذا الحدث صناعة واحتفالا، من الأمور التي أضحت تقليدا سنويا يرافق بانتظام وانسجام عملية كل إعلان بالفوز.
لا جدال في أن عددا من الفائزين بهذه الجائزة الغربية، يستحقونها عن جدارة، خصوصا إذا تعلق مجال المنافسة بمهن وميادين الطب والفيزياء والكيمياء؛ رغم حدوث بعض الانزلاقات القليلة والضيقة في بعض الأحيان النادرة. لكن عددا آخر من الفائزين بهذه الجائزة، وخاصة في مجال الآداب، لا يستحقونها مطلقا، أو لنقل لا يستحقونها بشكل أو بآخر. والسبب بسيط جدا، يتمثل في كون الأدب بأجناسه المختلفة والمتنوعة، معقدا، ويصعب، على المتخصصين فيه، حسم الحكم في جماليته وجودة إبداعه، مهما برعت يراعهم وأفهامهم وفطنتهم في تحديد المعايير، وتدقيق الضوابط، وتنويع زوايا القراءة والنقد والتحليل والتجريح. لذا يبقى اتهام الجهة المانحة بنزوعها في حالات كثيرة نحو الانتصار لديانة معينة، أو ايديولوجية معروفة، أو حضارة غالبة، أو اتجاها سياسويا عولميا مقصودا، ذا مشروعية لا تخلو من وجاهة ولا من مصداقية.
ولا يخفى على أحد أن نصيب المبدعين العرب من هذه الجائزة كادت أن تكون صفرا على اليمين وآخر على الشمال، لولا الفوز اليتيم والفريد والخجول الذي ظفر به الراحل نجيب محفوظ رحمه الله.. فهل قرائحنا الإبداعية نحن العرب – فضلا عن المبدعين المسلمين – غير قادرة على نسج نصوص ساحرة بسبرها لأعماق الحياة الإنسانية؛ لغة وأسلوبا وفكرة وحلا ؟ ألم يكن أحمد شوقي أمير الشعراء، وطه حسين عميد الأدب العربي، وعباس محمود العقاد أعجوبة دهره، وعبد الله كنون فريد عصره، وجبرا إبراهيم جبرا الروائي والرسام والناقد التشكيلي، وعبد الرحمن منيف قطب الرواية العربية.... وغير هذه الأسماء التي لا تعد ولا تحصى.. يستحقون الفوز بهذه الجائزة ؟؟؟.
إن أغلب النصوص الأدبية الفائزة بجائزة ألفريد نوبل صانع العنف المتفجر، لا تمتاز عن غيرها من النصوص التي كتبها وصاغ مضامينها أدباء من إفريقيا وآسيا (والعالم العربي). بل يمكن الجزم بأن نصوصا أدبية لمبدعين عرب فاقت غيرها روعة وجمالية وحكيا عن العالم والإنسان والتاريخ والسلام والحق والسياسة والدين، لكنها - يبدو أنها - لم ترق لمزاج الجهة المانحة ؟ ولم تحظ بمباركة المتدخلين في عمليات الفرز والانتقاء والرضا والسخط... وهم كثر – والحمد لله - يتجاوزون حدود السويد الجغرافية.. من هنا يعاد طرح أكثر من سؤال على الأسماع والأبصار: ما هي معايير الأكاديمية السويدية لمنح هذه الجائزة ؟ وهل منحها يهب للفائز بها، هدية دخول جنة الأدب العالمي ؟ وهل الإعلان عن اسم الفائز اعتراف بموهبته ونجوميته الأدبية، وقدرته على مساءلة الواقع والخيال والذاكرة، وقراءة الأحداث الإنسانية بآلامها وعذاباتها وأفراحها واحتفالاتها ؟.
وعليه، فإن المؤكد، ونحن نبارك للكاتب الفرنسي باتريك موديانو فوزه بجائزة نوبل للآداب، هو أن الثقافة العربية المعاصرة أنتجت لنا روائع أدبية خالدة، تستحق كل تنويه وتقدير وفوز، كما أنها كشفت لنا عن أسماء مبدعة عملاقة لا يعلى عليها عطاء وخيالا وسحرا وأخلاقا.. ودليلنا في ذلك؛ هو أن مئات من أعمال هؤلاء العمالقة الأدبية / الروائية والشعرية والمسرحية؛ ترجمت إلى عشرات من اللغات الحية، وأثرت على كثير من الخلق في الغرب والشرق، وكانت سببا في قدوم ملايين السائحين إلى ديارنا، والاغتراف من ثقافتنا وتراثنا، ومحاولة الإبداع من أمكنتنا.. وقد أعجز عن سرد الأسماء التي أصبحت عالمية بفعل الترجمة وتفاعلاتها الإنسانية، أبرزها محمد شكري وعبد الرحمن منيف وتوفيق الحكيم وطه حسين ومحمود تيمور وعبد الله العروي وغيرهم كثير. غير أن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أن إبداعات هؤلاء، والتي قرأها ملايين الناس، أسست لعوالم إنسانية غير معقدة، مفروشة بالحلم والسلام والحب والتعايش والاختلاف المثمر، كما أضاءت جوانب شتى من روح الإنسانية المظلمة، وقدمت للحياة والكون والإنسان حلولا للبقاء والنمو والتفاعل الحي الإيجابي.
ومن ثمة، فإن العالمية في المفهوم الأدبي؛ لا تمنحها جائزة نوبل، ولا جائزة غونكور، ولا جائزة بوكر العربية، ولا أية جائزة مادية ومالية.. وإنما تتحقق العالمية بما يبدعه الكاتب من نصوص مكتوبة أو شفهية متماسكة وواعية بحاجات البشرية وطموحاتها الإنسانية، وتتحقق بالإقبال الجماهيري على قراءتها وتمثلها، ومحاولة ترجمة مضامينها إلى حياة معاشة.. إلى حياة واقعية تنتصر فيها القيم، ويعلو بين تعاقب أيامها صوت الحق، وتنتصر عند احتدام أحداثها الفضيلة، ويحافظ فيها الإنسان على البيئة..في حين تبقى جائزة نوبل مجرد حدث أنساني قد يساعد البشرية في إنجاز التقارب بين المجتمعات، أو في العمل المشترك على تحقيق وصية ألفريد نوبل الذي ذهب إلى لقاء ربه بعد أن ترك الأرض بيد عفريت الديناميت... وهي جائزة لا تختلف عن سواها مهما حاول منظموها إيهام المبدعين، هنا وهناك، بعكس ذلك.